شبكات العزلة الإجتماعية

 


تقول الدراسات ان الإنسان لا يستطيع التواصل بشكل حقيقي إلا مع عدد محدد من الناس، حددوه تقريبياً بعدد لا يتجاوز 150 فرداً للجماعة، بعد ذلك تبدأ هذه الجماعة في الانقسام لجماعات اصغر في العدد لتحقق توازنها الطبيعي، لكننا في عصر يستطيع الفرد فيه التواصل مع عدد لا نهائي من الناس، عدد لا نهائي من الفولورز والمتابعين أو كما يسميهم فيسبوك "أصدقاء" بل حتى فيسبوك قرر أن الحد الجديد هو 5000 للأصدقاء، تخيل انك صديق لطلبة جامعتك كلها، كلهم أصدقاء، كلهم مقربون منك بنفس الطريقة، يعرفون نفس الأخبار والتحديثات عنك، وضعك المادي، النفسي والاجتماعي!

لا شيئ يشبه ما يعيشه هذا الجيل من سهولة الوصول للآخرين، بسهولة الوصول هنا أعني اننا بمجرد تحريك أصابعنا يميناً ويساراً بإمكاننا التعرف على اخرين من حولنا، يمتلكون مواصفات قريبة جداً مننا او من تفضيلاتنا، ذلك “التقدم” الذي يشبه فيلماً خيالياً في عقل أحدهم في الخمسينيات، الذي اكتشف ان بإمكانه استخدام موجات الراديو لإيصال صوته لجيرانه، فاعتلى سطح منزله ليثبت جهاز بث ويبدأ في إذاعة ما يريد، كلماته واغانيه واخباره، وكل ما على الاخرين فعله هو ظبط موجاتهم على الموجة نفسها ليسمعوا صوته عن طريق الجهاز الجديد والعجيب المسمى بالراديو.

الاذاعات التي انتشرت فجأة في العالم، أصبح كل إنسان قادر على بث إذاعة من بيته، بدأت بالاغاني والاخبار ثم انتقل الإنسان تدريجياً إلى عيب الإذاعات الأخرى وانتقادها، ثم شتم الإذاعة المجاورة عندما يفشل في مجاراة نجاحها، وتحولت الإذاعات لساحة عريضة من السباب والشتيمة طوال اليوم.

هل يذكرك هذا السلوك بشيء ما؟ التاريخ لا يعيد نفسه، حماقة الإنسان هي التي لا تتغير، الغباء هو ذاته وحب الإنسان الأبدي للتواصل مع الاخرين، الإنسان كلب اجتماعي.

مؤخراً تم الإعلان عن منحة 10 الاف باوند لمحاربة الوحدة، هذه المنحة في بريطانيا ستمنح للمشاريع التي تقلل من وحدة الناس في المجتمع، بداية من الألعاب للمساهمة في زراعة الحدائق وغيرها من الأنشطة المجتمعية التي قد تقلل وحدتهم.

الوحدة المفروضة علينا مؤخراً بسبب كورونا والعزل الصحي الذي لازم هذه الفترة في اجزاء كبيرة من العالم منعت الناس من ممارسة ما يجعلهم بشراً، حرمتهم من حق أساسي وأصيل وهو التواصل مع الآخرين، في عزلة تشبه السجن الاختياري.

بإمكانك سؤال السجناء المعزولين انفرادياً عن أصعب ما يمرون به وسيخبرونك بحاجتهم الماسة للمس، للاحتضان، للحديث مع الاخرين، عن اللاشيئ وعن كل شيء.

هل نعيش حقاً في عصر جيد؟ يمكن اعتبار العصر الحالي عصراً مميزاً للإنسان الحديث، الكثير من الطعام وأصنافه، سقف وبيوت تعمل بالتدفئة والتبريد، شاشات كبيرة ومتعددة يرى من خلالها العالم، كونه استعملها لمشاهدة آخرين يمارسون الجنس لا تقلل أبداً من اهمية من قدرته على الوصول لأي شيء من خلالها، لكن بالتأكيد يبقى القرار الأخير قراره. ذلك الإحساس المزيف بالحرية ضروري وأساسي لإحساس الإنسان ببعض السعادة والأمان.

الوحدة تقتل، تقول الأرقام ان عدد المنتحرين في هولندا في الشهور التي طبقت فيها الدولة الحظر قد زاد للضعف تقريباً عن الأرقام المعتادة، صديقة لي أبدت أيضاً قلقها الدائم على أصدقائها الذين فقدت بعضهم خلال هذه الفترة، الوحدة قاسية وتقتل.

لم أدرك الوحدة وأثرها في سنواتي الماضية سوى في أيام الكورونا، انا شخص اجتماعي يحب الناس ووجودهم من حوله، لدرجة انني انتقلت لبيت جديد تماماً في بدايات كورونا باحثاً عن السكن وحدي في مكان يخصني، لكني لم أحتمل الوحدة. استدعيت صديقاً ليعيش معي بعض الأيام كي يونس وحدتي.

كان لدي أيضاً قطة أليفة، وجود الحيوانات يشعرك بالدفء والحب طول الوقت، البعض يقتني كلاباً او قطط، او أي حيوان آخر يساعده في التخلص من الصمت، ويجبره على أداء بعض الواجبات بدافع الحب، الاهتمام، او الواجب.

هل ترى؟ نحاول بشتى الطرق ألا نبقى وحيدين، لدرجة اننا قررنا مصاحبة الحيوانات عندما خذلنا البشر.

نحن البشر كائنات اجتماعية.أفعال الآخرين هي سبب وجودنا في هذا العالم، وننجو فيه باعتمادنا عليهم. سواء أحببت ذلك أم كرهته، لا يمر وقت لا نستفيد فيه من وجود الآخرين. ولهذا السبب لا توجد أي دهشة في كون سعادتنا تنبع دائماً من إطار علاقاتنا بالآخرين وصلاتنا بهم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من برلين إلى أبوظبي قصص نجاح مستمرة

نسائم رمضان في الإمارات

برجيل الطبية توفر علاجاً مبتكراً لمرض كبدي نادر للمرة الأولي في الإمارات